وهي جنازة رجل ...

0 تعليق ارسل طباعة

الصلاة على الجنازة… وهي جنازة رجل… عبارة تتردد آلاف المرات يوميًا عند صلاة الجنازة على الموتى الذكور. يقف الإمام على النعش، فيصبح صاحبه بلا هوية، بلا تاريخ ميلاد، بلا جنسية، بلا لون، بلا منصب، بلا مركز اجتماعي، بلا رقم بطاقته الشخصية، ولا سوابقه العدلية. فقط يطلب حفار القبور رخصة الدفن، إيذانًا ببداية نهاية المشهد.

… وهي جنازة رجل… لا يقول الإمام: هذا المناضل الصنديد، ولا القائد المغوار، ولا الزعيم الأوحد، ولا الرئيس العظيم، ولا المارشال صاحب النياشين، ولا العالم العلامة، ولا غيرها من الألقاب الدنيوية البراقة. لا ذكر لفضائله وحسناته، ولا لأياديه البيضاء على أهله وذويه وأبناء عشيرته، ولا لشواهده الدنيا والعليا، ولا لما قل أو كثر من ماله ومتاعه. لا يقول هذا شهيد القضية، أو الأمة، أو العشيرة حتى. ولا هو من خيرة رجال أهل زمانه. ولا قتل غدرًا من طرف الجبناء.

سبب هذا الحديث هو ذلك المشهد الذي تناقلته وسائل الإعلام حول قتل يحيى السنوار، وما تلاه من تعليقات، منها من ربطه بضرورة إنهاء المجازر في حق المدنيين بغزة، ومنها من حمل الرجل مآسي سنة من الدمار في غزة ولبنان واليمن، ومنهم من احتسبه شهيد الأمة، ومنهم من رأى فيه ذلك الرجل الباحث عن حور العين في الجنة، ومنهم من اعتبره ضحية النظام الإيراني، ومنهم من لا يعرف لا السنوار ولا هنية ولا الشيخ ياسين ولا غزة نفسها، منشغل عن كل ذلك بالبحث عن قوت يومه.

حتى أنا لا يهمني كل ما قيل، ولا تهمني الدوافع الظاهرة والباطنة ليوم 7 أكتوبر 2023، ولا من يقف وراء من، ولا من سينتصر أو من سينهزم في النهاية. لأن نهاية كل حرب هزيمة لجميع أطرافها. لا يهمني الكلام العاطفي المفعم بالنفخات الإيمانية، ولا الكلام العقلاني الجيوستراتيجي المصلحي التدبيري للمواقف المعلنة والخفية. ما يهمني هو محتوى المشهد.

رجل ملثم، جالس على أريكة، هش بعصا على جسم في الهواء. الخراب في المحيط، دبابة توحي بأنها قصفت المكان، جثة مقاتل محاطة بجنود، ثم خبر قتل يحيى السنوار، وإحراز إسرائيل للنصر العظيم. نصر لم يعرف فيه القاتل ولا المقتول إلا بعد حين. لقد حرمهم من استمتاعهم السادي بقتله.

كانوا يظنون، كما كان يظن العالم أجمع، أن السنوار في مكان آمن في إحدى الأنفاق، محاط بحرس شخصي قمة في الإخلاص، يخطط ويدبر. أو فار من الموت، كما فعل قبله بعض القادة والزعماء حين دارت عليهم الدوائر، فأخرجوا من مخابئ لا تليق بشهامتهم أيام العز… فيا ليتهم ماتوا كما مات القتيل.

لا يهم من يكون القتيل، لكن المهم هو أن أعداءه سيحترمونه أكثر من احترامهم للخونة. ألم يقاوم التكنولوجيا الحديثة بعصاه وهو يحتضر؟ ألم يكفهم فيه رصاص الرشاشات، فاستعانوا بقذائف المدافع؟ ألم يكن هلعهم بحجم دخولهم الجحيم، فاستعانوا بالتكنولوجيا قبل دخول المكان؟ لقد هزمهم حيًا وميتًا.

ما السر في هذا المشهد؟

أكيد أن القتيل حامل لقضية، يؤمن بها إيمانًا ربانيا. لم تغره الكراسي ولا المناصب، ولا الإقامة في الفنادق الفاخرة داخل الوطن وخارجه، آكلًا مما لذ وطاب، وشاربًا من كل مياه الدنيا. لم تغره السيارات الفاخرة، ولا ربطة العنق المتناسقة مع قميص باريسي ومعطف إيطالي.

أكيد أن القتيل تسكنه قضية وطن عادلة، حق شعب مقهور في الوجود، قهرته نكبات بِعدِّ حبات السبحة… صبايا أيتام، أرامل يمنعهن كبرياؤهن عن استجداء الصدقات لإطعامهن، شيوخ تكالبت عليهم نوائب الزمن، فلم يبق بأيديهم سوى مفاتيح بحجم العصي، تذكرهم بالوطن قبل النكبة.

… وهي جنازة رجل… لو مات السنوار/القتيل معززًا مكرمًا على فراش وثير في أي بلد من بلدان العالم، أو مات وهو يفاوض، ويتبادل وجهات النظر والرؤى، ويوقع على اتفاقيات بالأحرف الأولى، ويلتزم بالمقررات الأممية أو بغيرها، ويوزع ابتسامات وتحايا النفاق الدبلوماسي… فأكيد أنه سيكون نسيًا منسيًا.

كم أنتم أغبياء يا أهل الغدر… متى كان إعدام رجل يحتضر بقذيفة مدفع… نصرًا؟… نتمنى له الجنة… وما تبقى لكم…

كم أنتم أغبياء يا قتلة العزل… لا شهامة لكم… لا نخوة لكم… لا رجولة لكم… لكم فقط عجل له خوار…

الرجل القتيل رقم في سجل القتلى الطويل… لن يقدم قتله أو يؤخر في نضال أهل فلسطين من أجل الوجود… فالرجل رقم وهوية، للعد لا غير… وفلسطين باقية… بقاء ترديد الأئمة عند الصلاة على جنائز الذكور: الصلاة على الجنازة… وهي جنازة رجل… رجل فقط.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق