التفاهة المبرمجة .. "تيكتوك" يتحوّل إلى أداة لتصريف الأيديولوجية الجديدة

0 تعليق ارسل طباعة

قالت الباحثة المغربية زهور كرام إن “المنصات التكنولوجية تدخل في سياقات وظيفية سياسيًا، اقتصاديًا، أيديولوجيًا، وثقافيًا، وهو أمر يستدعي من جهة الوعي بالاستخدام، ومن جهة أخرى الوعي بوظيفة الاستخدام ومقصديته”. مشيرةً إلى أن “المنصات تحولت إلى فاعل في التنافسية الدولية، خاصة فيما يخص العلاقة بين المنصة وقدرتها على تمكين الدولة المبتكِرة للمنصة من الداتا”.

وتطرقت زهور كرام، في مقال لها بعنوان “تيكتوك خلاء شعبوي”، إلى “المحتوى المهيمن في منصة تيكتوك في الممارسة الاستخدامية المغربية”، حيث أكدت على “شبه هيمنة للمحتوى المنزاح عن التعاقدات الاجتماعية والثقافية”، ومنبّهة إلى أن “تيكتوك يتحول في الاستخدام السيء إلى خلاء شعبوي، يقطع مع المكتسبات التاريخية، ويرتمي في نظام التفاهة عندما ينثر كل واحد ما تبقى من توازنه الإنساني”.

نص المقال:

يعد تيكتوك منصة تكنولوجية صينية تم إطلاقها عام 2016، وتسمح بتقاسم الفيديوهات القصيرة والصور. وقد حظيت باستخدام كبير نتيجة للمردود المالي، ولإمكانياتها التي تقترحها على المستخدم، الذي يتمكن من الولوج للمنصة واستعمال خدماتها بسهولة.

لا تخرج المنصة عن باقي الوسائط التكنولوجية التي ميزت الثورة الرقمية، حيث تقدم خدمات مغرية للمستخدم. بالمقابل، يقدم المستخدم خدمات تشكل جوهر المنصة ومطلبها، بل هدفها، خاصة فيما يتعلق بالداتا. هذا يعني أن المنصات تدخل في سياقات وظيفية سياسيًا، اقتصاديًا، أيديولوجيًا، وثقافيًا، وهو أمر يستدعي الوعي بالاستخدام من جهة، وفهم وظيفة الاستخدام ومقصديته من جهة أخرى.

تدخل المنصات في سياق أيديولوجي بات يحدد طبيعة الصراع العالمي عبر بوابة الشركات التكنولوجية العملاقة المتحكمة في برمجة العقل البشري حسب استخدام المنصات. كما تحولت المنصات إلى فاعل في التنافسية الدولية، خاصة فيما يخص العلاقة بين المنصة وقدرتها على تمكين الدولة المبتكِرة لها من الداتا. ولهذا، يمكن التفكير في تحول مفهوم الصراع العالمي اليوم في ظل التكنولوجيا، وتجاوز مفهوم العولمة باعتبارها تنميطًا للعالم، وتدجينًا للمجتمعات بنفس البضاعة (ماديًا وثقافيًا…).

دخلت العولمة إلى وضعية أيديولوجية جديدة، حيث تتنافس الدول المبتكرة للتكنولوجيا فيما بينها، بين من يُسوق منتوجه عبر نظام خدمات المنصة، ومن يتمكن عبر هذا النظام من امتلاك الداتا، أي سلطة التحكم في العالم. بهذا، أصبحنا أمام صراع لأنماط من العولمة، وليس لنمط واحد.

في الواجهة المقابلة لهذا الصراع التنافسي للدول العملاقة تكنولوجيًا، تحضر الشعوب المُستخدمة للمنصات باعتبارها أدوات لتصريف الأيديولوجية الجديدة، التي تجعل الإنسان موضوعًا وأداة في الوقت نفسه لتمرير سلطة التحكم التكنولوجي.

تعمل هذه التكنولوجيا على إفراغ الإنسان من بُعده الإنساني، بتجريده من الفعل الاختياري، وإبدال جهد التفكير لتحقيق الفهم، وإدخاله في لعبة مُبرمجة مسبقًا، وما عليه إلا أن يتبع تعاليم اللعبة باستخدام الخدمات التكنولوجية.

فعندما تقترح منصة تيكتوك على مستخدميها خدمات استخدامية من تصوير، تسجيل فيديو، مونتاج، وغيرها من التقنيات، فهذا يعني أن الإنسان لا ينتج نظام محتوياته. فالنظام جاهزٌ وسابق على عقل الإنسان الذي يملأه بمحتوى تختلف نوعيته حسب طبيعة الاستخدام وعلاقته بالمردود المالي. وبالتالي، عندما يلتقي التوظيف السيء للاستخدام مع وجود نظام سابق، ويصبح المحتوى مجرد جسر لكسب المال دون الحفاظ على مكتسبات المستخدم لقيمه ونظامه الاجتماعي والثقافي والتربوي، تُسرع المنصات في تحقيق أهدافها.

عند إلقاء نظرة على المحتوى المهيمن في منصة تيكتوك في الممارسة الاستخدامية المغربية، نلاحظ شبه هيمنة للمحتوى المنزاح عن التعاقدات الاجتماعية والثقافية، والمقترب أكثر من التجرد من كل مشترك مجتمعي يسمح باحترام ضوابط المجتمع والعلاقة بين أفراده. فما كان مخجلاً أصبح مغريًا، وما كان ذا معنى أصبح تافهًا، وما كان يختزل قيم المجتمع بات اختراقًا مُرعبًا، وما كان غير مقبولٍ أصبح مطلوبًا، وما كان يحتاج وقتًا للتفكير فيه تحول إلى سلوكٍ يُمارس بلا تردد. والأخطر من ذلك، أن هذا الانتقال يتم بسرعة، لا تترك -أحيانًا- أثرًا، كأننا نشهد محوًا اجتماعيًا وتاريخيًا.

نستثني من نظام المحو -بكل تأكيد- الاستخدام الوظيفي الذي يُدير العلاقة مع المنصات التكنولوجية بكل تريث، مما يخدم بقاء الوعي سالمًا من كل اختراق يحول المستخدم إلى جسر لسلطة التحكم التكنولوجي.

لم يعد العالم مبرمجًا بالأيديولوجيات التقليدية، فقد أصبحت التكنولوجيا أيديولوجية العصر، وخطورتها تكمن في اختلافها الجذري عن الأيديولوجيات التقليدية المعتمدة على الأفكار وتصريف الأفكار بالشعارات. لتحقيق أهداف هذه الأفكار يتطلب الأمر زمنًا طويلاً، يبدأ بغرس الأفكار وتثبيتها، ثم الثورة وشعاراتها. أما التكنولوجيا، فهي أيديولوجية قد تحققت، وباتت تنجز أهدافها بسرعة.

أمام هذا الوضع لطبيعة الأيديولوجية الجديدة، فإن الاستخدام التكنولوجي للمنصات دون اعتماد وعي وظيفي، والأخذ بالمقابل المالي فقط، يكرس التفاهة التي أصبحت نظامًا مبرمجًا. هذا النظام يجعل المستخدمين أدوات لتصريف الأيديولوجية الجديدة، بتحويلهم إلى كائنات تتخلى بسرعة عن حيائها الإنساني، تتجرد من قيمها، وتندفع نحو هلاكها التاريخي.

ما يحدث في لبنان، وما يرافق الأحداث المأساوية من تطورات مرعبة، يكشف عن كون العالم يعيش حالة تاريخية مختلفة. تتخذ التكنولوجيا وسائط لتصريف سلطة التحكم، الاختراق، والاستعمار الجديد، وذلك بدعم من المعطيات والمعلومات المنتشرة في الوسائط والمنصات التكنولوجية.

ولأن الابتكار التكنولوجي يتميز بالسرعة الفائقة وخدماته جد مغرية، فإن الاستخدام يُغذي السلطة التكنولوجية ويوسع دائرة الصراع الدولي.

لهذا، يتحول تيكتوك في الاستخدام السيء إلى خلاء شعبوي، يقطع مع المكتسبات التاريخية، ويرتمي في نظام التفاهة عندما ينثر كل واحد ما تبقى من توازنه الإنساني.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق