هل يحتاج الإنسان إلى استعمال اللغة في عمليات التفكير؟

0 تعليق ارسل طباعة
صورة: أرشيف
هسبريس - د.ب.أالثلاثاء 22 أكتوبر 2024 - 09:47

عندما سئل الفيلسوف وعالم الرياضيات البريطاني الراحل برتراند راسل عما إذا كانت اللغة لها أهمية بالنسبة لتفكير الأنسان أجاب بشكل قاطع “نعم”، مؤكدا أن للغة أهمية بالغة “من أجل إتاحة إمكانية التفكير”، وأنه “لا وجود للتفكير بدون اللغة”، لكن بعض النظريات العلمية التي ظهرت بعد ذلك كانت لها وجهة نظر مغايرة، إذ كانت ترى أن النظر للطبيعة في حد ذاته يكفي لدحض معتقدات راسل في هذا الشأن، إذ إن قرود الشمبانزي يمكنها أن تحل عمليات حسابية بسيطة وقد تتفوق على البشر في بعض الألعاب، وأن بعض أنواع الغربان تبتكر أدوات لاصطياد الفرائس، وكل ذلك في غياب لغة واضحة للتواصل في ما بينها، بل إن بعض الأشخاص الذين يعانون من مشكلات في اللغة، سواء بسبب مشكلات عقلية أو حوادث أو غير ذلك، يظل بمقدورهم التفكير والتعاطي مع مشكلات تتطلب مستويات عالية من الوعي والفهم والإدراك.

وترى الباحثة إيفلينا فيدورنكو، المتخصصة في طب الاعصاب من مركز ماكجفرن لأبحاث المخ التابع لمعهد ماساشوسيتس للتكنولوجيا في الولايات المتحدة، أن اللغة والتفكير في حقيقة الأمر هما كيانان منفصلان تماما، وأن مخ الإنسان يتعامل مع كل وظيفة من الاثنين بشكل منفصل عن الآخر، وبالتالي فإن عقل الإنسان يمكنه التعاطي مع أعلى درجات التفكير بدءا من حل المشكلات إلى المنطق الإجتماعي دون الحاجة إلى الاستعانة بأي لفظة أو تركيبة لغوية، وأوضحت في دراسة أوردتها الدورية العلمية Nature أن الشخص الذي يعاني من فقدان كلي أو جزئي للقدرة على التعامل مع اللغة المنطوقة، وهو ما يعرف باس aphasia، يظل بمقدوره الإتيان بوظائف عقلية جوهرية بالنسبة للقدرة على التفكير.

وتقول فيدورنكو إنها بدأت الاهتمام بدراسة الصلة بين اللغة والتفكير في مطلع القرن الحالي من منطلق أن عقل الإنسان يؤدي وظائفه الإدراكية المختلفة بطريقة حوسبية هرمية، وأن اللغة تعتبر نموذجا مثاليا لهذا الهيكل الهرمي، بمعنى أن اللغة تتكون من ألفاظ، ثم تتحول هذه الألفاط إلى عبارات، وثم تتطور العبارات إلى جمل كاملة باعتبارها أوعية لتوصيل المعاني؛ وحاولت التوصل إلى أجزاء المخ المسؤولة عن هذا التسلل الهرمي الذي يعتقد أنها موجودة في الفص الأمامي الأيسر للمخ، لكن الدراسات التشريحية التي قامت بها توصلت إلى أن أجزاء المخ التي تتعامل مع اللغة تختلف عن الأجزاء الخاصة بالتعامل مع وظائف مثل حل العمليات الحسابية أو التفاعل مع الموسيقى مثلا.

وأشارت الباحثة ذاتها، خلال مقابلة مع الموقع الإلكتروني “ساينتفيك أمريكان” المتخصص في الأبحاث العلمية، إلى أنها اعتمدت على أكثر من منهج بحثي للتيقن من صحة النظرية الخاصة بانفصال اللغة عن التفكير، إذ وجدت خلال التجارب أن الأشخاص الذين يعانون من إعاقات لغوية جسيمة بسبب تلف كامل في الفص الأيسر من المخ جراء التعرض لحوادث يظل بمقدورهم أداء وظائف تتطلب التفكير، واستشهدت ببعض القبائل البدائية التي ليس لديها لغات خاصة بها، والأطفال في مرحلة ما قبل الكلام، وبعض الفصائل الحيوانية المتطورة مثل القرود، إذ إن جميع هذه النماذج يمكنها التفكير بشكل سليم دون الاعتماد على قوالب لغوية.

واستعانت فيدورنكو بنتائج بعض التجارب العلمية التي أجريت خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، التي كانت تعتمد على إجراء تصوير إشعاعي للمخ أثناء القيام بوظائف معينة للتحقق من معدلات تدفق الدم داخل أجزاء المخ المختلفة أثناء الانخراط في أنشطة معينة، وتبين أنه أثناء القيام ببعض العمليات العقلية، مثل حل المسائل الرياضية أو الأحجيات أو القيام باختبارات تتعلق بالذاكرة والتخطيط وآليات اتخاذ القرار، تظل أجزاء المخ المسؤولة عن اللغة في حالة خمول وقتي.

وترى الباحثة أن دور اللغة في الأساس هو نقل الأفكار بين البشر، وتوضح: “نحن لا نستطيع قراءة أفكار بعضنا البعض، وبالتالي فإننا بحاجة إلى وسيلة مرنة لنقل أفكارنا الداخلية إلى المحيطين بنا، وهكذا يستطيع كل شخص تحديث قواعد المعلومات والمعارف التي يستند إليها كوسيلة للتفكير”؛ وتأكيدا لأهمية اللغة بالنسبة للتفكير تقول إنه على مدار العقود القليلة الماضية تطورت خصائص اللغات التي يتحدث بها البشر، التي يزيد عددها عن سبعة آلاف لغة، ما بين منطوقة ولغة إشارة، على نحو يكفل توصيل الأفكار والمعلومات بشكل أفضل، ما يتيح سهولة الإدراك واستنباط الأفكار ثم نقلها للأطفال بل للأجيال التالية.

وردا على سؤال بشأن ما إذا كانت أنظمة اللغة والتفكير تتفاعل مع بعضها داخل مخ الإنسان تقول المتخصصة ذاتها إن علوم طب الأعصاب ليس لديها أدوات لقياس هذا الشكل من أشكال التفاعل، لكن التطور الذي حققه العلم في مجال الذكاء الاصطناعي أتاح إمكانية ابتكار منظومات حوسبية لقياس خواص اللغة البشرية، مثل منظومة “جي بي تي 2” وما بعدها، ويمكن لهذه الأنظمة إنتاج عبارات لغوية ذات مغزى وسليمة نحويا في الوقت ذاته، وهو ما يتفق مع مفهوم أن النظام اللغوي في حد ذاته ليس هو ما يؤدي للتفكير؛ واستدركت قائلة: “لكننا نعمل مع مجموعات بحثية أخرى لابتكار منظومات عصبية اصطناعية للغة ثم محاولة ربطها بأنظمة إلكترونية تعمل بطريقة تفكير البشر نفسها، حتى يمكننا في نهاية المطاف ان نتوصل لفهم كيف يمكن لمنظومة خاصة بالتفكير أن تتفاعل مع نظام يمكنه اختزان المقاطع اللغوية واستخدامها”.

الإنسان التفكير اللغة

النشرة الإخبارية

اشترك الآن في النشرة البريدية لجريدة هسبريس، لتصلك آخر الأخبار يوميا

اشترك

يرجى التحقق من البريد الإلكتروني

لإتمام عملية الاشتراك .. اتبع الخطوات المذكورة في البريد الإلكتروني لتأكيد الاشتراك.

لا يمكن إضافة هذا البريد الإلكتروني إلى هذه القائمة. الرجاء إدخال عنوان بريد إلكتروني مختلف.>

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق