بشاري ينسب إنقاذ القيم الإنسانية الجامعة إلى الدبلوماسية الدينية والحضارية

0 تعليق ارسل طباعة

في سبيل التصدي للتحديات التي تواجه الإنسانية جمعاء، من حروب أهلية وصراعات دينية، وأزمات بيئية وكوارث طبيعية، فضلًا عن التفاوت الاقتصادي وانتشار الكراهية والعنصرية، دعا الباحث المغربي محمد بشاري، الأمين العام للمجلس العالمي للمجتمعات المسلمة، إلى التفكير في وسائل وأدوات جديدة “للدبلوماسية الدينية”، بوصفها “نوعا من الدبلوماسية التي تعتمد على الحوار والتفاهم بين القادة الدينيين وأتباع الأديان المختلفة، بهدف تحقيق السلام العالمي وتعزيز التعايش بين الشعوب”؛ لأن “الدين، بطبيعته، يحمل قيمًا أخلاقية وروحية يمكن أن تُستخدم كوسيلة لبناء جسور من الحوار بين الثقافات والأديان”.

جاء هذا خلال “القمة الدولية الأولى حول القيم الروحية والأخلاقية الدينية في العالم المعاصر وتطوير الحوار بين الأديان”، المنظمة بين 14 و17 أكتوبر الجاري بسانت بطرسبورغ الروسية من طرف مجلس الشؤون الدينية الإسلامية في سانت بطرسبورغ والمنطقة الشمالية الغربية، حيث ذكر بشاري أن “الدبلوماسية التقليدية، التي تعتمد بشكل أساسي على العلاقات بين الدول والقوى السياسية، قد تكون أحيانًا غير قادرة على مواجهة التحديات المعاصرة بمفردها. ففي زمننا الحالي، نجد أن الصراعات الدينية والعرقية تشكل جزءًا كبيرًا من التوترات العالمية. وعندما تستخدم الدين لأغراض سياسية، فإنه يمكن أن يتحول من وسيلة للتوحيد إلى أداة للتفريق”.

ثم استدرك قائلا إن “الدين، في جوهره، هو وسيلة للتواصل الروحي والأخلاقي، ويعتبر أحد أعظم القوى التي تجمع بين البشر. فالرسالات السماوية جاءت لتدعو إلى السلام والعدل والمحبة. يقول الله تعالى في كتابه العزيز: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ” (الحجرات: 13)”، و”هذه الآية الكريمة تذكرنا بأن التنوع بين البشر ليس سببًا للفرقة أو الصراع، بل هو وسيلة للتعارف والتعاون بين الشعوب”.

وبالتالي، “الدبلوماسية الدينية تستند إلى هذا المفهوم الأسمى للدين”، و”لا تسعى فقط إلى تحقيق السلام بين الدول والحكومات، بل تهدف إلى بناء جسور من التفاهم بين الناس على أساس القيم المشتركة التي تجمعهم. فهي وسيلة لتعزيز الحوار بين أتباع الديانات المختلفة وتجاوز الحواجز الثقافية والاجتماعية التي تعيق السلام”.

وفي “عصر تزداد فيه الصراعات والتوترات على المستوى العالمي”، تبرز الدبلوماسية الدينية “كأداة قوية لبناء الجسور بين الثقافات المختلفة”، مستندة إلى “الروابط الروحية والقيم الأخلاقية التي تشترك فيها الأديان الكبرى، مما يجعلها وسيلة فعالة لتعزيز التفاهم والسلام. لكنها تتجاوز الأبعاد التقليدية للدبلوماسية، فهي تسعى إلى بناء جسور بين المجتمعات والثقافات، ولا تقتصر على الحكومات فقط”.

وقدم المتدخل الدبلوماسية الدينية بوصفها مسهمة في “معالجة الانقسامات الثقافية والدينية التي غالبًا ما تكون مصدرًا رئيسيًا للصراعات”، علما أن “الدين يشكل جزءًا أساسيًا من الهوية الثقافية للعديد من الشعوب، ولذلك فهو يعد من أقوى الروابط التي تربط بين المجتمعات المختلفة. وعلى الرغم من الاختلافات العقائدية، فإن “القيم المشتركة بين الأديان مثل الكرامة الإنسانية، التضامن، والرحمة، تمثل أساسًا قويًا لتعزيز التفاهم المتبادل”، ومن هنا يأتي دور هذه الدبلوماسية التي “تستخدم هذه القيم لتعزيز الحوار بين الثقافات المختلفة وتجاوز الحواجز التي قد تعيق التفاهم”.

وتابع: “النزاعات الدينية والثقافية غالبًا ما تكون من أعقد الصراعات التي تواجه المجتمع الدولي. عندما يكون الدين هو محور النزاع، يصبح حل الصراع أكثر صعوبة، لأن الدين يمثل جزءًا أساسيًا من هوية الأفراد والمجتمعات. وهنا تلعب الدبلوماسية الدينية دورًا محوريًا، فهي تعتمد على الحوار الروحي والأخلاقي لحل النزاعات بدلًا من التركيز على الحلول السياسية فقط”.

واسترسل شارحا: “الزعماء الدينيون، بفضل مكانتهم في مجتمعاتهم وتأثيرهم الروحي، يمكنهم أن يلعبوا دورًا محوريًا في تهدئة الأوضاع المتوترة وتعزيز التفاهم بين الأطراف المتصارعة. فهم قادرون على تقديم الحلول التي تستند إلى القيم الروحية المشتركة وتقديم بدائل سلمية للعنف. ومن خلال مشاركتهم في مفاوضات السلام، يمكن أن يسهموا في بناء حلول دائمة ومستدامة”، وقدم مثالا بـ”لقاء البابا فرنسيس والإمام السيستاني في العراق الذي يمثل رمزًا للدور الذي يمكن أن تلعبه الدبلوماسية الدينية في تعزيز السلام؛ فهذه الزيارة لم تكن مجرد لقاء بين زعيمين دينيين، بل كانت خطوة هامة نحو تعزيز الحوار بين الأديان، ودعوة قوية لنبذ العنف والتطرف، وتحقيق التعايش بين المسيحيين والمسلمين في العراق وفي العالم بأسره”.

ولا يقتصر دور الدبلوماسية الدينية فقط على “تسوية النزاعات الكبرى بين الدول أو الثقافات”، بل يمتد إلى “معالجة القضايا اليومية التي تواجه المجتمعات المحلية؛ ففي المجتمعات متعددة الأعراق والأديان، تلعب الدبلوماسية الدينية دورًا في تحقيق التعايش السلمي بين الفئات المختلفة، وتعزز من فرص الحوار والتعاون”.

كما أنها أداة أيضا “لتوجيه القيم الدينية نحو التحديات العالمية الحديثة مثل التطرف، الإرهاب، والإسلاموفوبيا. لأن الدين، عندما يُستخدم بشكل صحيح، يمكن أن يكون قوة دافعة للتغيير الإيجابي”، علما أن “التحديات التي تواجه العالم اليوم لا يمكن حلها بوسائل مادية فقط؛ إذ يتطلب التغلب على التطرف والإرهاب جهودًا روحية وأخلاقية. والدبلوماسية الدينية، التي تعتمد على الحوار المستمر وتقديم الحلول الروحية، يمكن أن تسهم بشكل كبير في حل هذه التحديات”.

ومن المفاهيم التي استعملها الأمين العام للمجلس العالمي للمجتمعات المسلمة، مفهوم “الدبلوماسية الحضارية” الذي يختلف عن “الدبلوماسية التقليدية التي تعتمد على العلاقات السياسية أو الاقتصادية بين الدول؛ فهي تستند إلى تبادل الأفكار والقيم الثقافية بين الشعوب، وتسعى إلى تقديم صورة شاملة للأمة من خلال فنونها، أدبها، لغتها، وتقاليدها”، فتُظهر “روح” الأمة، وتؤثر في الرأي العام للدول الأخرى بطرق لا تستطيع الدبلوماسية التقليدية تحقيقها.

وواصل: “الدبلوماسية الحضارية تعتبر عنصرًا من عناصر القوة الناعمة، فهي تعتمد على الجذب الثقافي بدلاً من الإكراه أو القوة العسكرية. من خلال تبادل الأفكار الفنية، الأدبية، واللغوية، تستطيع الدبلوماسية الحضارية تقديم صورة إيجابية عن الدولة، مما يعزز من علاقاتها الدولية”، ومن أدواتها “برامج التبادل الثقافي بين الدول التي تسهم بشكل كبير في تعزيز التفاهم بين الشعوب. وتتيح للأفراد فرصة تجربة الحياة في بلد آخر، والتعرف على ثقافته وقيمه من خلال العيش مع شعبه”، وهي تجارب “تترك انطباعًا طويل الأمد على المشاركين، وتساعد في بناء جسور تفاهم عميقة لا يمكن تحقيقها بطرق أخرى”.

الفنون أيضا، سواء كانت موسيقى أو فنونا بصرية أو أدبا، “تعتبر أدوات قوية للدبلوماسية الحضارية. يمكنها تجاوز الحواجز اللغوية والسياسية لتصل إلى قلوب الناس مباشرة”، وقدم مثال “الفنون الأمريكية التي كان لها دور كبير خلال الحرب الباردة في تقديم صورة إيجابية عن الولايات المتحدة للعالم الخارجي، مما ساهم في تعزيز مكانتها على الساحة الدولية”.

هذه الدبلوماسية الحضارية يمكن أن تكون “أداة فعالة لمواجهة التحديات العالمية المعاصرة مثل الإرهاب والتطرف والإسلاموفوبيا، من خلال تقديم صورة إيجابية وشاملة عن الثقافة الإسلامية، تسهم في مواجهة التصورات الخاطئة التي ترتبط بالإسلام والمسلمين”، ومن أدواتها التعليم عبر “برامج التبادل الطلابي والدراسات الثقافية”، التي تمكّن الطلاب “من مختلف البلدان أن يتعرفوا على ثقافات جديدة ويتبادلوا الأفكار مع زملائهم من خلفيات ثقافية مختلفة”، وهو “نوع من التبادل يسهم في بناء جسور التفاهم بين الأجيال الشابة، ويعزز من التعايش السلمي بين الشعوب”.

ومع استشهاد بالحديث النبوي “المسلم من سلم الناس من لسانه ويده”، ذكر بشاري أنه “يعكس مدى أهمية السلم والتسامح في الإسلام؛ فالدبلوماسية الدينية تتطلب أن نعيد النظر في العلاقة بين الدين والسياسة، وأن نفهم أن الدين يمكن أن يكون أداة قوية لتحقيق السلام، إذا تم توظيفه بشكل صحيح”، و”الدبلوماسية الدينية تسعى إلى إشراك الزعماء الدينيين في عملية نشر قيم الاعتدال والتسامح، وتصحيح المفاهيم الخاطئة التي يستخدمها الإرهابيون لتبرير أعمالهم”، دون اقتصار على مجرد الخطاب الديني، بل ينبغي أن يمتد العمل إلى “تنظيم مؤتمرات، وورش عمل، تجمع بين مختلف الأطراف الدينية والسياسية، لتبادل الأفكار والعمل على صياغة حلول فعالة لمواجهة التطرف”.

ومن بين ما تطرقت له المداخلة أهمية “التعليم الديني” في لعب “دور حاسم في نشر قيم التسامح والتفاهم بين الشعوب”؛ فـ”من خلال التعليم الديني يمكن غرس قيم التسامح والعدالة في عقول الأجيال الناشئة، وتقديم الدين على أنه أداة لتحقيق السلام وليس للصراع”.

وختم محمد بشاري تدخله بالقول إن “الدبلوماسية الدينية ليست مجرد دعوة للتسامح بين الأديان، بل هي وسيلة لتحقيق استقرار مستدام وتوازن عالمي في مواجهة تحديات الذكاء الاصطناعي؛ فالذكاء الاصطناعي، الذي بات يتطور بسرعة فائقة، يحمل في طياته قدرات هائلة على التأثير في حياتنا اليومية. ومع ذلك، إذا تُرك هذا الذكاء دون ضوابط أخلاقية وروحية نابعة من القيم الدينية، فإنه قد يتحول إلى سلاح فتاك قد يقود البشرية إلى حافة الفناء”، وهنا “يظهر الدور الحاسم للأديان، فهي وحدها القادرة على تقديم الإطار الأخلاقي الذي يحكم استخدام هذه التكنولوجيا. فالذكاء الاصطناعي ليس مجرد أداة تقنية، بل هو مجال يحتاج إلى توجيه وإدارة وفقاً لمبادئ أخلاقية تضع الإنسان وحياته في المقام الأول. وإذا لم تتكاثف الأديان لضبط هذا التطور، فإننا قد نشهد استخدامات خطيرة تهدد الوجود البشري وتدمر القيم الإنسانية التي تجمعنا”.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق