لعروسي يَبْسط تحديات الهيمنة العالمية في مواجهة المخاطر الأمنية المتصاعدة

0 تعليق ارسل طباعة

سلط الدكتور محمد عصام لعروسي، المدير العام لمركز منظورات للدراسات الجيو- سياسية بالرباط، الضوء على الترابط العميق بين الأنظمة الأمنية الدولية والإقليمية، مبرزا أن “التغيرات في النظام العالمي، منذ نهاية الحرب الباردة، أفرزت تنافسا جديدا على القيادة العالمية، مع دخول فواعل غير تقليدية تؤثر في هندسة الأمن الدولي”.

ولفت لعروسي، في مقال نشر في العدد الأخير من مجلة “درع الوطن” الإماراتية، معنون بـ “الهيمنة العالمية في مواجهة المخاطر الأمنية المتصاعدة”، إلى التوجه الأمريكي نحو ترتيبات أمنية جديدة تركز على التحالفات الإقليمية، مثل منطقة الإندوباسيفك، واحتواء نفوذ الصين وروسيا، مضيفا أن “واشنطن تعتمد على إدارة الأزمات عن بعد بدلا من التدخل العسكري المباشر، كما يظهر في سياستها تجاه الأزمات في اليمن وليبيا وأوكرانيا”.

وأوضح أن استمرار الأزمات في الشرق الأوسط يعزز نفوذ الفواعل غير الحكومية المدعومة من إيران، مما يزيد من تعقيد الوضع الأمني الإقليمي، مشيرا إلى أن “الولايات المتحدة تواجه تحديات كبيرة في التعامل مع هذه الأزمات، مما يعكس محدودية قدرتها على فرض الاستقرار”، وأكد أن “تنامي الشراكة بين الصين وروسيا يشكل تهديدا للهيمنة الغربية، مع احتمال إعادة تشكيل النظام الدولي”.

نص المقال:

يكاد يكون الارتباط بين الأنظمة الدولية والاقليمية للأمن جد حتمي ومتداخل لدرجة كبيرة، حيث إن شظايا التوترات في منطقة معينة قد تصيب المناطق الأخرى بحروق مستعصية وندوب غائرة، اعتبارا للتأثيرات المتبادلة بين الدول وارتفاع منسوب المخاطر الذي بات يهدد كل أطراف النظام الدولي، حيث أضحى السؤال الكبير يدور حول أهمية تغيير هندسة الاستراتيجيات الأمنية في الوقت الراهن مقارنة بما شهده العالم من تحولات مركزية بعد نهاية الحرب الباردة، التي عرفت بالارتكاز على قواعد الثنائية القطبية وما شملته من منافسة وصراع على مناطق النفوذ، بينما يعيش العالم المعاصر على سياسات جديدة ترتبط بمدى التحول في مفهوم القيادة العالمية والهيمنة وإمكانات تفوق فواعل دولية غير تقليدية وفرض قواعدها ومنطقها.

يبدو أن الهندسة الأمنية الحالية تتأرجح بين الهيمنة العالمية المعتمدة على قواعد النظام الدولي الموروث عن اتفاقيات بروتن وودز والتكتلات الإقليمية المنبثقة عنها، لكن مع العديد من التغيرات، التي شابت أسس وشكل وفسيفساء الأنظمة الأمنية الفرعية، وحضور وازن للعديد من الفواعل غير النظامية وما أنتجته من واقع جيوسياسي معقد، بل ويجهز على حظوظ هذه الدول في تحقيق الاستقرار والأمن والتنمية في بلدانها.

كما أن الحروب الحالية، كالحرب الروسية الأوكرانية والحرب على غزة، تؤكد على أهمية واحتمالات التغيير في نظام الأمن الدولي وتعزيز هيمنة القوى الكبرى، ذلك أن الهجمات التي شنتها حماس والرد الإسرائيلي الوحشي والعشوائي في غزة يشكل تحديًا للمحور الأساسي لعقيدة إدارة بايدن، التي تروم إخراج الولايات المتحدة من الحروب المستمرة منذ عقود ضد الجهات المسلحة غير التابعة للدولة، والتراجع عن مخططات بناء الدولة في الخارج، وإعادة توجيه الاستراتيجية الأمنية والعسكرية الأمريكية نحو المنافسة مع الصين وروسيا.

أولا: هندسة الأمن المركبة

لقد أصبح الأمن في عالم الاعتماد المتبادل من المتطلبات النادرة في زمن المخاطر المتعددة، التي تقتضي الحاجة العالمية والماسة لإعادة النظر في كل المنظورات الأمنية القائمة على اختلال التوازنات لفائدة الدول الكبرى، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية، ذلك أن العالم في أمس الحاجة إلى تطبيق هندسة أمنية شاملة ومستدامة تجمع بين دول الشمال ودول الجنوب، وتوحد جهود كل الفواعل الأمنية، وتجسد رغبة وإرادة مشتركة في إطار استراتيجية عالمية لمجابهة التهديدات الأمنية الجديدة، التي أصبح بإمكانها أن تطال كل الناس في كل العالم، وتؤثر بشكل بالغ على أمن البشر في كل مكان وزمان.

يعكس التوسع الأمريكي في دبلوماسية صياغة ترتيبات أمنية جديدة مساعي متقدمة لإعادة هندسة المشهد الأمني العالمي عبر أربعة فضاءات أمنية رئيسية شبه مستقلة، تتمثل في: أوروبا، والشرق الأوسط الكبير، و”الإندوباسيفك”، والأمريكيتين؛ وهذا ما يطرح تساؤلات عديدة بشأن الهندسة الأمنية الجديدة، مع التركيز على الاتفاقيات الأمنية الموقعة بشأن منطقة الإندوباسيفك، ومناقشة مدى تماسكها، وتداعياتها المحتملة على الأمن العالمي.

من بين أهداف السياسة الأمريكية الجديدة لممارسة سياسة الاحتواء الأمني الجديدة، إذا جاز استخدام عقيدة مونرو الأمريكية السابقة مع تغيير المنافسين فقط، احتواء الصعود الصيني، ومواجهة فرص بروز تكتل صيني- روسي، وتقليص الحاجة إلى انتشار عسكري أمريكي واسع النطاق ومرتفع التكلفة عالميًّا.

وترتكز سياسات التحالف الأمريكية الجديدة على الاعتماد على المدخل الإقليمي للترتيبات الأمنية بدل الاعتماد على دور عالمي لحلف “الناتو”، وتبني مفهوم أوسع نطاقًا للأمن من مجرد الترتيبات العسكرية، ومحاولة موازنة التعارض بين بعض الأطراف التي تمثل ركائز لهذه الترتيبات الأمنية الأمريكية. وقد تجلت مظاهر هذه السياسة في كل من اليمن وليبيا وأوكرانيا، حيث واصلت واشنطن اهتمامها وترسيخها للهندسة الأمنية عن بعد وبلبوس مناطقية لا تستدعي حركة متواصلة ودائمة للجيوش الأمريكية خارج نطاقها الجغرافي. وتتجلى محاور عدَّة للهندسة الأمنية الجديدة التي تتبناها الولايات المتحدة الأمريكية، من أهمها توسعة حلف “الناتو” شرقًا، ومحاولة خفض حدة الصراع العربي-الإسرائيلي في الشرق الأوسط، وبناء شبكة تنسيق أمني في مواجهة عوامل التهديد البارزة بالمنطقة.

ثانيا: المعضلة الأمنية وديمومة الأزمات

ما يميز الهندسة الأمنية الجديدة التي تعتمدها واشنطن هو إدارة الأزمات بالأزمات واستمرارها في غياب الخيارات الجيدة، حيث أصبحت السياسة الأمريكية غارقة في منطقة ملتهبة من الصراعات اللامتناهية، وهذا ما شجع مجموعة واسعة من الجماعات التابعة لإيران والجهات المسلحة غير الحكومية على ترسيخ ديناميتها الصراعية وتوجيه ترسانتها باستخدام الحرب اللامتناظرة صوب إسرائيل منذ بداية الحرب في غزة.

ساهمت السياسة الخارجية الأمريكية المساندة لإسرائيل في دفع وكلاء إيران الى الواجهة، فحزب الله في لبنان والحوثيون في اليمن والجماعات شبه العسكرية الموالية لإيران في العراق قامت باستغلال الحرب في قطاع غزة لتحويل الانتباه عن إخفاقات الأنظمة السياسية في الحكم في بلدانهم وتغطية طموحاتهم الجامحة للوصول الى السلطة، وتغليف تحركاتهم بشرعية خارجية تم إحياؤها مؤخرا من خلال أدوار الإسناد في الحرب في قطاع غزة.

تسهم واشنطن بشكل غير مباشر في زعزعة الاستقرار في المنطقة وتعريضها لتهديدات غير مسبوقة، بما في ذلك تهديد المصالح الأمنية والاقتصادية العالمية. على سبيل المثال، هجمات الحوثيين في البحر الأحمر وجهود الجيش الأمريكي لإحباطها تزيد من تورط الولايات المتحدة في المنطقة، دون أن ننسى أن استمرار النفوذ الإيراني في العراق واليمن، والتراجع الأمريكي عن دعم الدول المعتدلة، والتخلي عن الملف السوري دون تسوية سياسية واضحة، يكشف عن حقيقة التوجه الأمريكي، الذي وضع حجر الأساس لمنطقة ممزقة الأوصال تعيش على إيقاع أزمات معقدة تبقى دون حل إلى أجل غير مسمى، وكما كان يقول هنري كيسنجر، فالدور الأمريكي في الشرق الأوسط هو إدارة الأزمات وليس إيجاد حل لها.

ثالثا: الهيمنة الغربية أمام اختبار التهديدات الأمنية

فضلاً عن صراعاته الداخلية، يواجه التحالف الغربي الآن “محور مقاومة”- يتمركز حول روسيا والصين- قد يميل إلى تهديد هيمنته بتحد متزامن ومنسق. وتوضح العديد من المؤشرات مدى تخاذل المعسكر الغربي في اتخاذ مواقف موحدة، فالعديد من التقديرات تشير الى أن أمام أوكرانيا فترة بسيطة قبل أن تنفد قذائف المدفعية لديها، ولا يستطيع الكونغرس الأمريكي الموافقة على شحن المزيد منها الى كييف، كما تستمر المذابح في غزة دون تسوية نهائية تلوح الأفق. وتهاجم جماعة الحوثي السفن في البحر الأحمر، كما يختبر الكوريون الشماليون صواريخ باليستية عابرة للقارات.

إن النظام العالمي الذي نشأ بعد عام 1945، والذي تم تدوينه ضمن قواعد القانون الدولي، وصادقت عليه الأمم المتحدة، وحافظ على توازن الرعب النووي بين القوى الكبرى، أصبح معلقاً بخيط رفيع، فالولايات المتحدة منقسمة على نفسها ومجهدة إلى أقصى حدود قدراتها. وتستيقظ أوروبا على احتمال أن تتوقف أمريكا عن الوفاء بالتزاماتها الدفاعية الجماعية بموجب المادة الخامسة من معاهدة حلف شمال الأطلسي. وفي مواجهة هذا الغموض الجديد، تعمل أوروبا على زيادة إنتاجها الدفاعي، ويحاول قادة دول الاتحاد الأوروبي إقناع ناخبيهم بزيادة 2 بالمائة من ناتجهم المحلي الإجمالي لفائدة الزيادة في الإنفاق العسكري لضمان سلامتهم وأمنهم.

إن التحالف الغربي لا يواجه تحدي مضاعفة الجهود في مجال الدفاع مع الحفاظ على الوحدة عبر الأطلسي فحسب، بل يواجه أيضاً “محور المقاومة”، الذي قد يميل إلى تهديد الهيمنة الغربية، ويتمثل هذا المحور في الشراكة “بلا حدود” بين روسيا والصين، ففي حين يزود الصينيون الروس بالدوائر المتقدمة لأنظمة أسلحتهم، يزود الرئيس الروسي فلاديمير بوتن بيكين بالنفط الرخيص، وقد فرضا معاً حكماً سلطويا على معظم أنحاء أوراسيا.

رابعا: مواجهة المحور الصيني- الروسي

إذا أُجبِر التحالف الأطلسي على التنازل عن الأقاليم الأوكرانية لفائدة السيادة الروسية، خصوصا شبه جزيرة القرم ومنطقة دونباس، فإن المحور الأوراسي سوف ينجح في تغيير الحدود البرية الأوروبية بالقوة، وسوف يهدد تحقيق هذه الغاية كل دولة على حافة أوراسيا: تايوان، دول البلطيق وحتى بولندا. وسيصبح بإمكان المعسكر الشرقي استخدام حق النقض في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة للتصديق على الغزو الروسي، وبالتالي تسفيه ميثاق الأمم المتحدة وتهميشه كما هو الشأن بالنسبة للسلوك الأمريكي في الحرب على غزة حيث تجاوزت واشنطن كل مقولات القانون الدولي وألقت بها في مزبلة التاريخ المعاصر القاتم السواد.

وتعمل الشراكة بين المحور الصيني- الروسي جنباً إلى جنب وبشكل غير مباشر مع إيران وكوريا الشمالية، فالكوريون الشماليون يزودون بوتن بقذائف المدفعية بينما يخططون لغزو بقية شبه الجزيرة. ويزود الإيرانيون الروس بالطائرات بدون طيار التي ترهب الأوكرانيين في خنادقهم. وفي الوقت ذاته يساعد وكلاء إيران- حماس وحزب الله والحوثيون ــ روسيا والصين من خلال تقييد حركة أمريكا وإسرائيل في منطقة الشرق الأوسط.

وإذا لم تتمكن الولايات المتحدة من إجبار إسرائيل على وقف إطلاق النار في قطاع غزة على المدى الطويل سوف تجد نفسها متورطة في العديد من الصراعات على ثلاث جبهات (آسيا وأوروبا والشرق الأوسط)، ولن تستطيع الإنفاق أكثر من منافسيها في الدفاع والمحافظة على موقف الحرب في وقت واحد عبر العديد من المسارح والمناطق المشتعلة عبر العالم.

خامسا: التراجع الأمريكي والمقاربات المتضاربة

إن فكرة أن الديمقراطيات في مختلف أنحاء العالم سوف تنضم إلى أمريكا وأوروبا ضد التهديدات السلطوية تبدو كأنها مجرد شعارات وأوهام صنعها الغرب وصدقها. فبدلاً من الانضمام إلى الديمقراطيات الغربية، تبدو الديمقراطيات الصاعدة في الجنوب- البرازيل والهند وجنوب أفريقيا- وكذا العديد من دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا غير محرجة من التحالف مع الأنظمة الأوثوقراطية التي تعتمد على القمع الجماعي الممنهج، واحتجاز شعوب بأكملها (الأويغور في الصين)، والقتل العمد في روسيا.

لا شك أن المحور السلطوي يتحد حاليا فقط مع من يعارض الهيمنة الأمريكية، وهو منقسم بخلاف ذلك بسبب اختلاف مصالحه النهائية. على سبيل المثال، لا يمكن للصينيين أن يؤيدوا بشكل مطلق عرقلة الحوثيين لحركة التجارة العالمية والشحن عبر البحر الأحمر. ولا يشترك ثاني أقوى اقتصاد في العالم في الكثير مع جيش المقاومة الإسلامية أو مع إيران الثيوقراطية.

وعلاوة على ذلك، تظل روسيا والصين مستفيدتين من اقتصاد عالمي مدعوم بتحالفات الولايات المتحدة ومن يدور في فلكها. ولم ينجُ الاقتصادان الصيني والروسي من العقوبات الأمريكية فحسب، بل واصلا مسيرتهما نحو الازدهار، واستبدلا اعتمادهما على الأسواق المحظورة بأسواق جديدة في أمريكا اللاتينية وآسيا والهند، واكتشفت كل من موسكو وبكين أن السيطرة الأمريكية على الاقتصاد العالمي في تراجع ولم تعد كما كانت في السابق.

إن الأسلحة النووية لن تردع بالضرورة الصين وروسيا عن المجازفة بمحاولة منسقة للاستيلاء على تايوان وبقية أوكرانيا. وربما تعتقدان أنه لن تكون هناك لحظة أكثر ملاءمة للإطاحة بالهيمنة الأمريكية كاللحظة الحالية. وإذا اجتمعت مقدراتهما وإرادتهما معا فسوف تشكلان التحدي الأكثر خطورة للنظام الاقتصادي والاستراتيجي العالمي منذ عام 1945، بمعنى محاولة صناعة قواعد جديدة للهيمنة تعوض تلك القائمة حاليا.

خاتمة

لا أحد يستطيع فعليا أن يتوقع شكل الهيمنة العالمية في مواجهة التهديدات الأمنية والجيوسياسية والاقتصادية والثقافية، لكن من الراجح الجزم بكون الملامح الرئيسية للنظام الدولي ما بعد الحرب الباردة سوف يظل قائما، لكن بشكل مخترق في الكثير من الأحيان، على اعتبار تعدد وارتفاع التوترات والأزمات الدولية، وإصرار واشنطن على التواجد في العديد من المسارح الدولية وإدارة الأزمات بأساليب مختلفة تكشف عن فشلها في الهيمنة العالمية بمقتضى منطق القوة الصلبة وإنهاك وتسفيه القانون الدولي.

بالمقابل، فإن المحور المعارض، المتمثل في الصين وروسيا ومن يصطف الى جانبهما، قد يسهم في تغيير مقاربات الهيمنة، واستغلال الضعف الأمريكي وعدم قدرة واشنطن على تدبير الأزمات الدولية، لكن قد نحتاج إلى وقت أطول للحديث عن الهيمنة التشاركية المتعددة الأطراف، خاصة أن الحرب في غزة أعادت الولايات المتحدة الأمريكية إلى منطقة الشرق الأوسط بهدف تعزيز أمن إسرائيل.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق