تنمُّر النقاب على التنُّورة

0 تعليق ارسل طباعة

هبَّتْ أعاصير التشدد القادمة من الشرق لتقْتلِع قِيَم التسامح من قلوب المغاربة وتبُثَّ بُذورَ الفتنة المذهبية في مجتمعنا. إلا أن منابر الوهابية تَصِف هذا التقلُّب الجارف بالفتْح المُبِين، ولنكتب عبارة السلفيين بنصِّها: “لمّا نسِي المسلمون دينَهم، ظنّوا أن السلفيين جَاؤُوا بِدين جديد”؛ أي أن المجتمع الحالي بِعامّته وعُلمائه يفتقد الدين الحق، ومِن شأن السلفية الوافدة أن تغرس العقيدة الصحيحة في قلوب الناس وتأخذهم إلى جادَّة الصواب.

وقد أتى السلفيون مدجَّجين بسلاح التنمُّر، لكن تحت مُسَمَّى “واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”. وباعتبار أنفسهم الطائفة المنصورة التي لا تتكلم إلا بدليل، مَضَوْا يهاجمون بشراسة المنتسبين إلى المذهب المالكي والعقيدة الأشعرية، محاولين احتكار هذا الواجب الديني الذي يجب أن يكون مَنُوطاً بالسلطات التي ترعى الشأن الديني في الدولة. وهكذا طفِقَ السلفيون المغاربة يَتَواصَون بعدم السكوت على المُخالِف وردْعه وإرهابه والتضييق عليه استناداً إلى مرويات تحُتُّ على الغلظة والقسوة مع أهل البِدَع والضَّلال مثل ما قيل عن اليهود والنصارى: “إذا لقِيتُم أحدَهم في طريق فاضطروه إلى أضْيَقه”. ولو لمْ تكُن سلطة القانون فوق رؤوس هؤلاء المتطرفين لكان لَهُمْ مع مخالفيهم مِثل موقف ابن تيمية الذي استحلَّ دمَ مَن يُصِرُّ على الجهر بالنِّية في صلاة الجماعة.

وبِحُجة إخضاع كل الأمور إلى ميزان الشرع ابتغاءً لمرضاة الله تعالى، أخذوا يُقْصُون التيارات الدينية المنافِسة باعتبارها فِرقاً ضالة كلها في النار، ويستهدفون المدافعين عن الأمازيغية اعتقاداً منهم أن جنس العرب أفضل من كل الأجناس، ويتطاولون على المسؤولين الحكوميين تعبيراً عن سخطهم على استبعاد آرائهم الدينية في تدبير شؤون الدولة، ويسْعون إلى فرض رؤيتهم الضيقة وما يرَوْنه ضوابط شرعية على الفنانين والرياضيين بِلَعِب دور الرقابة على المهرجانات الثقافية والفنية واللقاءات والتعليقات الرياضية، ويتنمرون على التنويريين الذين يرفضون الجمود العقلي ويميلون إلى التخفيف من مرجعية السلف باتهامهم بالزندقة والجرأة على ثوابت الدين.

تتوالى حملات التنمر باسم الدين، ويبقى السلوك العدواني اتجاه المرأة هو أخطرها وأكثرها انتشاراً، سواء على أرض الواقع أو على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث يتدخل المتنمرون في خصوصيات المرأة ويعمدون إلى ترويضها وقهرها حتى تلتزم بمِنْهاجهم، لأنهم يحسَبون قبول الاختلاف سكوتاً عن أهل الضلال يستوجب عقاباً إلهياً لا يستثني الصالحين. وفي هذا الإطار يرفضون الحريات الفردية ويستخِفّون بحقوق الإنسان وينبذونها وراء ظهورهم، ويتمسكون بعقيدة التنمر لدرجة أنهم يشعرون بامتلاك سلطة موازية لسلطة وزارة الداخلية مثل شرطة الأخلاق في إيران أو هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي عمّرتْ طويلاً في السعودية.

ومنذ أن تصدَّعَت سُلطة دعاة زواج الصغيرة وإرضاع الكبير تصَدَّرَ لِفقْهِ المرأة في العالم الافتراضي من يُتقنون التنمر الإلكتروني. في طليعة هؤلاء الذين تَرامَوْا على مواقع التواصل الاجتماعي ليضُخّوا آراءهم الرجعية ويَعْرضوا أعطابهم الأخلاقية، داعيةٌ معروفٌ بتوتُّره يُكثِر الصراخ في خُطَب مُنْفلِتة الزِّمام ولا يستريح إلا بالحَوقَلة والهيْللة، وآخَر يحمل لقب “مول الفوقية” لا يجيد غير تحريض الغوغاء. بعنجهية اليقين يدافعان دِفاعاً مستميتاً عن النقاب، وبعنترياتهما الصوتية يقومان بهجومات مضادة على التنُّورة. ما يبدو تزمّتاً وحضّاً على التنمر، يراه الشيْخان ولاءً وبراءً من صميم العقيدة، ولاء للنقاب وبراءً من التنورة.

والحق يقال، لا داعي لأساليب المُخاتَلة التي ترتكز على القراءة الماكرة والفهم المُغْرِض للنصوص والأحداث بُغْية اختزال الإسلام في المظهر؛ فإذا كان هناك إخلال بالحياء العام فإن للدولة سلطات تحدده وتعاقب عليه؛ أما رد الفعل المتطرف لرجال الدين إزاء التنورة في الشارع فهو يكشف فشلهم في إقناع الفتيات بارتداء ما يرَوْنه زيًّا شرعياً، ويبيّن أنهم رأوا في تنمر الأطفال على مُرتدِية التنورة فِعْلاً يشْفي غليلَهم ويساعد على ردْع وزجْر المتحَرِّرات العَصِيات على سماع أوامرهم. وما تطرُّقهم لحادث تَنُّورَة طنجة إلا من باب البحث عن مدخل لمهاجمة المتبرجات ليصِفوهن بالعاهرات وينعتون آباءهن بأشباه الرجال ويرمون إخوانهن بالدياثة. نعم، لقد سوَّلتْ لهم أنفسهم تبرير هتْك عِرض الفتاة لمجرد ارتدائها تنورة في الشارع العام، ولا شك أنهم كانوا يتلذذون بكشف ما بقي مستورا من جسدها.

وعندما يتحدث الشيوخ عن اللباس المستفز أمام أتباعهم يَسيل لُعاب هؤلاء الذين يسيرون في فَلَكهم، مما يجعلهم يتحمسون للتنمر اللفظي والجسدي. وللكاتب العراقي علي الوردي رحمه الله كلمة جديرة بالذكر هنا هي قولُه: “إنهم يرتكبون ما نهَى الدين عنه، ولكنهم يُصبحون من أشد الناس غَيْرة على الدين حين يَجِدون فيه وسيلةً للاعتداء. ونحن نأسف أن نرى الوُعاظ يستخدمون مثل هؤلاء السَّفَلة في دعايتهم الدينية”. وماذا يُتقن الرِّعاع غير السماع والاتباع؟! لا شك أن قلوبهم استوطنها الرياء، ولمْ يُهذِّبها الإسلام. ألا يتذكرون تنمرهم القديم على حَلِيقِي اللِّحى الذين وصفُوهم بالمُخَنَّثين وتنمرهم الجديد على كل من أحبَّ الطبيعة وأخذَ له صورة مع قوس قزح بإضافته إلى مجتمع الميم؟! صِرنا نفكر ألف مرة قبل استخدام أي شيء يحمل علامة زائد (+) لِئَلاّ نُتَّهم بالتآمر مع الصليبيين. هكذا حال التفكير في زمن التكفير!

وفي الوقت الذي أضْحينا نسمع في السعودية: “العفة والأخلاق لا ترتبط بأمتار القُماش”، فاجَأَنا شيخٌ من شيوخ الفجأة يحْمل لقبَ “مول القفطان” ويأكل على كل الموائد بقوله: “قدْرُ الإيمان في القلب كما قدْر الحجاب على الرأس، فكَمَا أن الحجاب ناقص فإن الإيمان ناقص”. تسطيحٌ للعقول ما بَعْدَه تسطيح! ولا نستبعد أن يقول شيخنا تعميماً للفائدة على الرجال: “إن طول اللحية يتناسب تناسُباً اِطِّراديًا مع قوة الإيمان”.

وبناءً على ما سبق، فالمتطرفون لا يستنكرون التنورة فقط، هم يرفضون كل لباس لا ينطبق مع النموذج المعياري السلفي ويعتبرونه هجوماً على مظاهر الإيمان المتجسدة في لباس المنقَّبات. فالنقاب، وليس الحجاب فقط، هو شعارهم الظاهر الذي يمَكِّن من إبراز انتشارهم واستعراض قوتهم في سعيهم إلى التمكين؛ والدليل على ذلك أنهم في دفاعهم عن النقاب يُساوُون بين نزْع النقاب والعُرْي، وبيْن منْع النقاب ومحاربة الدين، مستعملين مغالطة القسمة الثنائية الزائفة. ولا يذكُر بعضُهم الحجاب إلا في إطار مغالطة المُنْحدَر الزَّلِق: “إذا سكتْنا عن منع النقاب اليوم سيُمنَع الحجابُ غداً”، رغم أن الحجاب منتشر في الثانويات المغربية منذ ما يزيد عن أربعين سنة دون اعتراض.

والواضح أن على رأس الوصفة الفقهية التي أُسِّستْ عليها حملة النِّقابيين (نسبةً إلى النقاب) توجَد نصوص تشجع على التنمر منسوبة إلى رسول الله، لذلك يسَمُّون الخطيب الأكثر تنمراً بأسَد السُّنة، ولا فرْق يُذكر بين التشبه بالنمر والتشبه بالأسد. وقد اسْتَأسدوا وتنَّمروا كثيراً، أقاموا الدنيا ولم يُقعِدوها، أُصيبوا بذُعْر ثم سُعار بمجرد أن مُنِعت تلميذة من ارتداء النقاب داخل ثانوية تأهيلية علمًا أن المؤسسة التعليمية من الأماكن التي يتحتَّم فيها الإفصاح عن الهوية بإظهار الوجه. فالنقاب يساعد على التمويه والتنكر، ويستحيل معه ضبطُ غياب التلميذات ورقابة الامتحانات إذا كان في القسم عددٌ كبير من المُنَقَّبات حيث يمكن أن تتغيَّب تلميذةٌ وتَحضَر عِوَضها فتاةٌ أخرى لا علاقة لها بالفصل الدراسي، وعند تسجيل الغياب تُدرَج المتغيبةُ ضمن الحاضرين بينما هي خارج المؤسسة تَسْتمتع بأحلى لحظاتها تاركةً طاولةً نقشتْ عليها “نقابي عفتي”. هذا دون الحديث عن دور تعابير الوجه في التواصل خلال العملية التعليمية التعلُّمية.

ومن جانب آخر، تجاوزت انتقادات الإكليروس السلفي مسألة اللباس عندما انطلق يحارب طواحين الهواء، يتهجم بعصبية طائشة على تخصُّص التربويين برفض إجلاس تلميذة إلى جانب تلميذ على طاولة الفصل وبالاعتراض على إدراج أسطورة إغريقية عن تعدد الآلهة في البرنامج الدراسي.

إن التنمر باسم الدين الذي كانت تمارسه الكنيسة في القرون الوسطى وحُورِب من طرف علماء التنوير هو ما يمارَس الآن من طرف دعاة الإسلام الذين يريدون أن نعيش في فترة أكثر ظلامية. وإلى حين ينظرون إلى الواقع بتعقل وتفهم ندعوهم إلى امتثال قوله تعالى: “ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ” سورة النحل، من الآية 125 وقوله سبحانه: “وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ” سورة هود، الآية 118. أما إذا أصَرّوا على نسخ آيات الله بروايات تُكرِّس الكراهية وتُأسِّس لإلحاق الأذى بالغير، فسلام على قيَم التعايش في بلاد المسلمين.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق